فصل: تفسير الآيات (27- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (27- 37):

{قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} هو عرض لصورة من صور التلاحي والترامي بالتهم بين قرناء السوء يوم القيامة.
فحين يؤخذ أحد القرينين- وهو التابع- ليساق إلى جهنم، يتعلق به صاحبه، قائلا: ربّ هو الذي أضلنى عن الحق، وأغوانى بما أغوانى من ضلال.
وهنا يحاول القرين المتبوع، وهو الشيطان- دفع هذا الاتهام عن نفسه، فيقول:
{رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
إنه كان مسوقا إلى الضلال بنفسه، متجها إليه بأهوائه، سواء وجد من يدعوه إلى هذا الضلال أو لم يجد.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [22: إبراهيم].
قوله تعالى: {قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}.
هو قولة الحق من اللّه سبحانه وتعالى، إلى قرناء السوء، سواء منهم التابعون، والمتبوعون.. إنه لا تخاصم اليوم بين يدى اللّه، فقد توعد اللّه أهل الضلال، وحذرهم عاقبة أمرهم، وإن مع كل إنسان عقلا يدرك به، ونظرا يرى به عواقب الأمور، وليس يغنى في مقام المساءلة والمحاسبة أن يلقى إنسان بجرمه على غيره {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} [14- 15: القيامة].
قوله تعالى: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
أي أنه لا ينقض هذا الحكم الذي قضى اللّه به في أهل الضلال، ولن تنفع الظالمين معذرتهم، ولا هم يستعتبون.
وقوله تعالى: {وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
هو توكيد لقوله تعالى: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}.
لأن هذا حكم من أحكم الحاكمين، رب العالمين، الذي يقضى بين عباده بالحقّ.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}.
أي إن هذا القضاء إنما يكون يوم القيامة، يوم يعرض الناس على رب العالمين، يوم يساق المجرمون إلى جهنم.. وإنهم لأعداد كثيرة، يتقحمونها فوجا بعد فوج، وهى فاغرة فاها لتبتلع كل وارد عليها، دون أن تشبع.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} 68:
(العنكبوت).
قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}.
هذه أول آية في هذه السورة تتحدث عن المؤمنين، وما أعد اللّه لهم من ثواب عظيم وأجر كريم.. فقد كانت السورة كلها مواجهة لأهل الشرك والضلال، وما دخل عليهم من شركهم وضلالهم، من إنكار ليوم البعث، حتى إذا جاءهم هذا اليوم، ذهلوا وذعروا، ثم إذا سيقوا إلى المحشر، والتقى بعضهم ببعض- أنكر بعضهم بعضا، وتراموا بالعداوة والبغضاء، ثم ألقوا جميعا في جهنم التي لا تضيق بكثرة الواردين إليها.
فقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} هو النسمة العليلة المنعشة التي تطلع في هذا الجوّ الخانق، الذي يكظم الأفواه، ويزكم الأنوف، مما يهب من سعير جهنم، ومن صرخات أهلها.
إن يوم القيامة ليس كله هذا الهول وهذا البلاء، بل إن في هذا اليوم مباهج، ومسرات، وبشريات مسعدة لأهل الإيمان والتقوى.. وأنه إذا كان هناك جهنم التي تفغر فاها لأهل الشرك والضلال، فإن هناك أيضا جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين.. وأنه إذا كانت جهنم تنتظر الواردين الذين يسوقهم إليها سائق عنيف يدعّهم دعّا، ويلقى بهم إلقاء فيها، فإن الجنة تسعى للقاء أهلها، وتلقاهم متوددة، متلطفة، تماما كما يفعل المضيف عند استقبال ضيف عزيز كريم، فيلقاه على الطريق مرحبا محييا.
فقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} أي قربت، والزلفى: القرب.. وهذا يكون في مقام الإحسان، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} [40: ص].
قوله تعالى: {هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}.
أي هذا الجزاء الكريم الطيب، هو ما وعد اللّه سبحانه به الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
والأوّاب: مبالغة من الأوب، وهو الرجوع، والمراد به الرجوع إلى اللّه، والاعتصام به في كل حال، وإضافة الأمر إليه في السراء والضراء.. فهذا هو مقتضى الإيمان الحق باللّه، حيث يقوم من هذا الإيمان شعور قوىّ حىّ، يصل الإنسان بربه أبدا، فإذا كان منه انحراف مع هواه لم يلبث أن يردّه هذا الشعور إلى ربه تائبا مستغفرا، كما يقول سبحانه. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} (201: الأعراف) والحفيظ: مبالغة من الحفظ، وهو حفظ الإنسان لنفسه، وحراستها من الأهواء والضلالات التي ترد عليها.. ثم حفظ ما اؤتمن عليه من أحكام دينه.
وقوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} بدل من قوله تعالى: {أَوَّابٍ حَفِيظٍ}.
فالأوّاب إنما كان أوابا وكان حفيظا، لأنه كان على خشية لربه، وخوف من لقائه، وعذابه.
والمراد بالخشية بالغيب، الخشية التي تكون من الإنسان في غير حضور من وازع سلطان أو قانون، وحيث تمكن الإنسان الفرصة من أن يفعل المنكر، ويرتكب الفحشاء من غير أن يطلع عليه مطلع، ولكنه يردّ نفسه عن هذا خوفا من اللّه، وحياء من جلاله.
وفى ذكر الاسم الكريم {الرحمن} هنا إشارة إلى مبلغ التقوى والخشية التي تستولى على نفس هذا المؤمن الذي يخشى ربه، وهو يستحضر رحمته ويذكر سعة هذه الرحمة، ومع هذا فإن ذلك- وإن أطمعه في رحمة اللّه- لا يجرّئه على محاربته بالمعصية، بل إنه في حضور هذه الرحمة يكون أشد حبّا لربه، ومن أحب لم يكن منه عصيان لمن امتلأ قلبه بحبه.
وقوله تعالى: {وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} معطوف على قوله تعالى: {خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ}.
أي كانت منه خشية للرحمن بالغيب، وكان منه مجيء، وعودة إلى ربه بقلب منيب، أي راجع من شروده الذي كان متجها به إلى طريق المعصية.. فالقلب هو موطن المعتقدات الصالحة أو الفاسدة، ومصدر التصرفات الطيبة أو الخبيثة، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب»!.
قوله تعالى: {ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}.
هو التفات إلى أهل الإيمان والتقوى، هؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب، ويقبلون عليه بقلوب سليمة، منيبة، وهو دعوة كريمة من رب كريم إليهم أن يقبلوا هذه الضيافة الكريمة التي ينزلهم فيها، وقد جاءوا إليه سبحانه، مسلمين تائبين.
وقوله تعالى: {بِسَلامٍ} هو حال من فاعل {ادْخُلُوها} أي أدخلوا هذه الجنة التي أزلفت لكم، مصحوبين بسلام، لا يمسّكم ما يسوء أبدا.
قوله تعالى: {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ}.
الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فيه مزيد حسرة لأهل الضلال والشرك، وكأن هذا حديث إليهم، وردّ على ما يغلى في صدورهم من حسد لأهل الإيمان والتقوى، الذين دعاهم اللّه سبحانه إلى جنته ورضوانه، وأنهم إذ يحسدون المؤمنين على هذه الجنة التي أزلفت لهم فليسمعوا إذن ما يؤحج هذه النار المشتعلة في قلوبهم من حسرة وحسد: إن هذه الجنة سيجد فيها أهلها ما يطلبون، وما يشتهون من كل شيء، يجدون ذلك حاضرا عتيدا بين أيديهم من غير سعى أوكد.. بل وأكثر من هذا، فطن اللّه سبحانه يسوق إليهم من فضله وإحسانه ما لم يقع في حسابهم، وما لم يخطر على بالهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَدَيْنا مَزِيدٌ} بعد قوله سبحانه: {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها}.
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} عاد الحديث مرة أخرى، ليصل ما انقطع من أخبار أهل الكفر والضلال، وما يلقون على طريق كفرهم وضلالهم، وما تنتهى إليه مسيرتهم التي تلقى بهم في سواء الجحيم.
وهذا الحديث يواجه المشركين بعد أن رأوا مشاهد القيامة، وما فيها من عذاب ونعيم، عذاب لأهل الكفر والفسوق والعصيان، ونعيم لأهل الإيمان، والطاعة والتقوى.. فلينظروا بعد هذا إلى أنفسهم، وليأخذوا الطريق الذي يشاءون، إلى النار إن شاءوا، أو إلى الجنة إن أرادوا. وأنهم إن أبوا أن يتوقفوا عن مسيرتهم على طريق غيهم وضلالهم، مغترين بقوتهم، معتزين بمكانتهم في أهليهم- فليعلموا أنهم أضعف قوة، وأقل شأنا ممن كان قبلهم من أهل الضلال، وقد أهلكهم اللّه، وأنزلهم منازل الهون والعذاب.
وقوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ}.
التنقيب في البلاد: السعى بالإفساد فيها، واستعمال قوتهم في الاستبداد بالعباد، كما يقول سبحانه في فرعون وملائه:
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ} [10- 13 الفجر] وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} أي هل انتفع هؤلاء المغترون بقوتهم المعتزون بسلطانهم، في ردّ بأس اللّه عنهم، وفى رفع البلاء الذي أخذهم به؟
كلا. فما أغنى عنهم ذلك من اللّه من شيء.
والمحيص: المفرّ من مواجهة البلاء، والتماس السلامة من الهلاك.. وفى هذا يقول الشاعر:
وهل نحن إن حصنا عن الموت حيصة ** هل العمر باق والمدى متطاول؟

قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي في هذه المعارض التي تعرضها الآيات، في مقام الوعد أو الوعيد- في هذه المعارض موعظة، واعتبار، وذكرى.. ولكن ليس هذا لكل إنسان، بل {لمن كان له قلب} أي كان ذا قلب سليم، معافى من الآفات التي تقتل كل بذرة خير تبذر فيه، فلا تنبت زهرا، ولا تطلع ثمرا.. كما أن المعارض فيها عبرة، وذكرى، وموعظة، لمن كان قلبه في غفوة وغفلة عن مواقع العبر والعظات، ولكن كان له أذن واعية، تستمع لما يلقى إليها من آيات اللّه وكلماته، ومن نصح الناصحين، ووعظ الواعظين.. وهنا يتنبه القلب الغافل، ويصحو القلب الغافى.
وهذا يعنى أن الإنسان قد يتهدّى إلى الهدى بنفسه، ويرد موارد السلامة والنجاة ببصيرته، إذا كان معه قلب سليم، وفطرة لم تقع فريسة لآفات الهوى والضلال.. فإذا لم يكن مع الإنسان هذا القلب وتلك الفطرة، فإنه يمكن أن يأخذ طريق الهدى من خارج ذاته، إذا هو أصغى إلى كلمات الحق الواردة عليه من رسل اللّه، أو الراشدين المهتدين من عباد اللّه.. شأنه في هذا شأن الأعمى، الذي إن أسلم يده لمبصر قاده إلى مأمنه، وإن هو استبدّ به العناد، وأبى أن يعطى يده لأحد، سار متخبطا، يتردّى في الحفر والمعاثر، حتى يهوى في مهلكة من المهالك!

.تفسير الآيات (38- 45):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ} اللغوب: الفتور الذي يلحق الإنسان من عمل مجهد شاق.
والآية تعرض بعض مظاهر قدرة اللّه، ليرى منها المغترون بقوتهم، أين تقع هذه القوة من قوة اللّه.. وهل إذا طلبهم اللّه، وأرادهم بسوء- هل لهم من قوتهم ما يدفع عنهم بأس اللّه، وتلك بعض مظاهر قوته..؟
وتقدير خلق السموات والأرض في ستة أيام، ليس الزمن الذي تحتاج إليه قدرة اللّه لخلق هذه العوالم، وإنما هو- كما قلنا في أكثر من موضع- تقدير الزمن الذي تنضج فيه وتستوى هذه الأكوان، شأنها في هذا شأن كل مخلوق، كما يرى ذلك في مسيرة الحياة في الأحياء من نبات وحيوان.
أما قدرة اللّه سبحانه وتعالى، فلا يحكمها زمان: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس] وهذا يعنى أن الزمن عنصر من عناصر الخلق، وأن لكل مخلوق زمنا يتحرك فيه، كما أن له مكانا يدور في فلكه.
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} هو مواساة للنبىّ الكريم فيما يلقى من أذى قومه، وما تلقى به أفواههم من فحش القول، وزور الحديث، في شأن الرسول، وفى آيات اللّه التي يتلوها عليهم.. ثم هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم مأخوذون بوعيد اللّه لهم، وأنهم لن يفلتوا من بأس اللّه إذا جاءهم.
وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} هو دعوة للنبى أن يدع هؤلاء المشركين، وألا يصرف وقته كله في النصح لهم والجدل معهم.. بل إن عليه أن يخلص بنفسه ساعات يلقى فيها ربه، مسبّحا بحمده، متزودا بهذا الزاد الطيب الذي يمده بأسباب القوة والقدرة على احتمال هذا العبء الثقيل الذي تنوء به الجبال.
وفى اختصاص هذين الوقتين- قبل طلوع الشمس وقبل غروبها- بتسبيح اللّه وحمده، لأنهما- واللّه أعلم- هما الوقتان اللذان يحويان بين طرفيهما، الوقت الحىّ من حياة الناس، والذي فيه يكون العمل في ميادينها المختلفة.. والتسبيح بحمد للّه قبل طلوع الشمس، هو السلاح الذي يتسلح به الساعي إلى العمل والجهاد، فيكون له منه القوة التي تعينه في عمله وجهاده.. والتسبيح بحمد اللّه قبل غروب الشمس، هو صلاة شكر وحمد للّه على ما كان منه من عون وتوفيق.. ثم هو استغفار لما وقع من إهمال أو تقصير.
قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ}.
{مِنَ} هنا للتبعيض.. أي ومن بعض الليل لا كله.
وهو معطوف على قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}.
أي وسبحه كذلك بعضا من الليل، وفى أدبار السجود، أي أعقاب الصلوات.. في الليل أو في النهار.
والتسبيح بالليل يعنى أن الليل ليس كله وقتا ميّتا، بل فيه أوقات حية عند المؤمنين باللّه، يحيونها بذكر اللّه والتسبيح بحمده، حيث تخلو النفس من شواغل الحياة، ويفرغ القلب من الواردات التي ترد عليه منها في النهار.. ففى هذه الأوقات من الليل يطيب الذكر، وتصفو موارد الذاكرين.. ومثل الليل في هذا الأثر الذي يحدثه في النفس من الصفاء والصحو الروحي- ما يكون من المصلّى أثناء السجود، حيث يضع المصلى وجهه على الأرض، فلا يرى من هذا الوجود شيئا يحجبه عن اللّه، أو يشغله عن النظر إليه.. وهذا ما يشير إليه النبي صلوات اللّه وسلامه عليه في قوله: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد}.
قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ}.
الخطاب للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه، ومن ورائه المؤمنون.. وهو معطوف على قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} وما بعده.
والمراد بالاستماع هنا، إما أن يكون الانتظار، كما يقول سبحانه:
{فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [47: القمر] وكما يقول جل شأنه: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ} [10: الدخان] وقوله جل شأنه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ} [18: غافر].
وعلى هذا يكون الفعل مسلطا على ما بعده، وهو {يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ} الذي وقع مفعولا لهذا الفعل.
وفى التعبير عن الانتظار والترقب بالاستماع- إشارة إلى ما يجيء وراء هذا الانتظار، وهو هذا النداء الذي ينادى به الموتى من قبورهم، فيخرجون من الأجداث سراعا.. فكأن الأمر بالانتظار يحمل في مضمونه أمرا بالاستماع، فحسن في مقام التهديد أن يقوم المحمول مقام الحامل، لأنه هو المراد.
وإما أن يكون الاستماع على حقيقته، ويكون معموله المسلط عليه محذوفا، تقديره {واستمع} ما سنحدثك به بعد، وأصخ إليه سمعك، فهو أمر عظيم، ينبغى أن يلقاه الإنسان بكيانه كله، حتى يعيه، وحتى لا يفوته منه أي شيء.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} يكون هذا هو ما دعى النبي صلوات اللّه وسلامه عليه إلى الاستماع له.. ومفهوم هذا أن هناك يوما سينادى فيه المنادى من مكان قريب، وأن هذا اليوم هو اليوم الذي يسمع فيه الموتى هذا النداء، وذلك هو يوم الخروج من القبور الذي يكذب به المشركون.
ووصف المكان بأنه قريب- إشارة إلى أن كل إنسان سيسمعه، أيا كان مكانه، حيث يقع النداء في أذن كل ميت، وكأن هاتفا يهتف به وهو قائم على رأسه..!
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}.
هو إشارة إلى ما للّه سبحانه وتعالى من سلطان مطلق في ملكه، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء.
وبهذا السلطان يحيى اللّه سبحانه وتعالى كل حىّ، وبهذا السلطان يميت اللّه كل حى، وبهذا السلطان يصير كل ما في الوجود إليه، يقبضه ويبسطه كيف يشاء.. فالبعث الذي ينكره المشركون، هو أمر واقع في سلطان اللّه.. فكما ملك- سبحانه- الحياة، يملك الموت، وكما ملك الموت يملك الحياة.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ}.
هو متعلق بقوله تعالى: {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} أي إلينا مصير الخلق جميعا، يوم تتشقق الأرض عنهم، ويخرجون من قبورهم سراعا إلينا، أي مسرعين إلى حيث الحساب والجزاء.
وقوله تعالى: {ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ}.
أي ذلك الحشر، حشر يسير علينا، لا نتكلف له جهدا.. {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [40: النحل].
قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ}.
هو تهديد ووعيد المشركين المكذبين بيوم الدين.. فاللّه سبحانه وتعالى يعلم ما يقولون من مفتريات وأباطيل في النبي، وفى الكتاب الذي يتلوه عليهم، وسيجزيهم بما هم أهل له، من العذاب والنكال!
وقوله تعالى: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} هو بيان لموقف النبي من هؤلاء المعاندين المكابرين، الذين لجّ بهم الضلال، والعناد، ولن يأخذوا طريق الهدى إلا إذا أخذوا قهرا وقسرا، بيد قوية جبارة.. وهذا ليس من وظيفة النبي، ولا من محامل دعوته التي جاءت تحاجّ العقل، وتقوده بالحجة والبرهان.. فذلك هو السبيل الذي تصلح به القلوب الفاسدة، إن كان ثمة سبيل إلى إصلاحها.
وذلك هو الأسلوب الذي يقيم الدين بمقامه المكين من النفوس، إن كانت مهيأة لقبول الخير، صالحة للتجاوب معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} وقوله سبحانه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وقوله جل شأنه: {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}.
وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ} هو بيان لمقام النبي من دعوته، وأسلوبه في الدعوة إليها: التذكير بالقرآن، وذلك بتلاوته على الناس جميعا. كما يقول له الحق سبحانه وتعالى:
{إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [91- 92 النمل].
وفى اختصاص الذين يخافون وعيد اللّه بتلاوة القرآن عليهم، وتذكيرهم بما فيه من زواجر، مع أن الرسول مطالب بأن يتلو القرآن على الناس كلهم، وأن يذكّرهم بزواجره- في هذا إشارة إلى أن الذين من شأنهم أن يخافوا وعيد اللّه إذا استمعوا إليه، هم الذين ينتفعون بهذا القرآن، وأمّا سواهم الذين لا يسمعون، ولا يعقلون، فهم همل ضال ضائع، لا حساب له في هذا المقام.
كما يقول سبحانه: {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [18: فاطر] وقوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} [45: النازعات].